أكانت نبؤءة عندما أشَرت في كتاباتٍ سابقة، إلى المياه الآسنة التي استَجرَّيناها، عن عَمدٍ أم عن إهمال، إلى مُحيطنا الكنسيّ النّظيف ولوّثنا بها مجاري مياهنا الرّوحيّة العذبة التي تمُدّنا بالتعليم الصحيح، وتختصر حياتنا الإيمانيّة ببعض الطقوس المُمسرحة والعواطف والخُرافات؟ أكانت إساءة عندما تقاطعتُ مع الكنيسة في قولها، إنَّ الشّرور التي تُعاني منها لا تأتيها من أعداءٍ خارجيين، بل من الخطيئة السّاكنة في أبنائها وبناتها والتي تجعلُ منهم أبناءً وبنات عاصِينَ ومُتمرّدين؟ أكنتُ كافراً عندما خِفت وخشيت، ولا زلت، من الفريسيين الجُدُد الذين يتظاهرون بمَظهر التقوى فيتجلّدون بجِلد الحُملان ويكتنزون بلحم وشحم الذئاب الخاطفة؟ أكنتُ مُخطئًا عندما توضّحتُ حقيقة أصوليّةٍ مسيحيّة تتكوَّن على أطراف الكنيسة وتتهيّأ للإنقضاض عليها من الدّاخل بحجّة الدّفاع عن الإيمان والعقيدة، وأنّ المسألة مسألة وقتٍ ليس إلاّ، لكي تطلَّ برأسها وتنطح بقرنيها وتُحاول أن تفرض إرادتها على "الأُم والمُعلّمة" وترجع بها إلى الوراء؟ لا أعتقد ذلك، فالأمر ليس بحاجةٍ إلى نبوءة ولا إلى أنبياء، ولا إلى ذكاء فائق الطبيعة ولا إلى أذكياء، ولا حتى إلى فهمٍ استثنائي، لكي يُدرِك المرء واقع الحال المُريب، ويتبيّن أنّ العديد من الجماعات والجمعيّات المُسمّاة مسيحيّة ليست بالضّرورة مسيحيّة! وأنّ تلك التي تَختِم بختم الرّوح، ليست بالضّرورة روحيّة! وأنّ تلك التي تُقسِم الطّاعة والولاء للكنيسة، ليست بالضّرورة طيّعَة ومُطيعة! وأنّ تلك التي تلبس لِباس الحُملان، ليست بالضرورة وديعةً وحليمة! "ولا عجب فالشيطان نفسه يتزيّا بزيِّ ملاك النّور"(٢كور. ١١: ١٤).
لقد أوقع فايروس كورونا ورقَة التّوت عن تلك الجمعيّات والجماعات المُسمّاة مسيحيّة وأتباعها، وكشف عورتها ونواياها السيّئة وبُنيَتها التحتيّة الخبيثة وعرّاها وفضح هويتها الحقيقية المُرّة والمُسيئة وانحراف تعاليمها. استطاعت هذه الجمعيات والجماعات التي يقودها، وللأسف الشديد، كهنة ورهبان وراهبات أن تؤكّد نفوذها على أتباعها، وتصنع منهم مواد قابلَة للإشتعال عند الضرورة، على ما فعلوا يوم الأحد مع الكاهن في قُدس أقداس المحبّة. كشف الفايروس عن أن بؤراً دينيّة أصوليّة نشأت على ضفاف الكنيسة وانتشرت فيها شيئاً فشيئاً، مُستغلّة غياب الرّقابة الكنسيّة. وأن هذه البؤر تحاول أن تبسط سطوتها على السّلطة الكنسيّة وتُخضعها لإملاءاتها، بعدما سطت على عقول أتباعها وقادَتهم إلى سوء التفكير والتقدير وإلى المزيد من التزمّت والتعصّب والتصلّب والتحجّر والتعنّت والقساوة والغلاظة والتقوقع والتمرّد والعنف وردود الفعل السيئة، التي لا ترقى إلى مستوى المحبّة ولا إلى مستوى التّهذيب الذي هو من علامات الرّوح القدس. وما حالة التمرّد التي تشهدها الكنيسة بنتيجه التدبير الرعائي الذي اتخذه السيد البطريرك مع مجمع الأساقفة، إلاّ الشاهد على ما أقول، وهو في الواقع أمرٌ مُعيب. والفضل لكورونا أنّه عمل على موجتين: جعل زَفرَ الجماعات المارقة يطفو على السّطح. وأبان لنا هشاشة البُنيان الذي شيّدناه بأيدينا على مدى السّنوات الماضيّة، وسوء شهادتنا للمسيح. وهكذا يتبدّى للكنيسة واقع الحال المرير فتسعى إلى إعادة بناء ما قد هُدم، ولمّ شمل الأعضاء المُتناثرة هُنا وهناك على الضّفاف، وتقوية الحال.
وما قبل كورونا ليس كما بعده، فالسلطة الكنسيّة مدعوّةٌ إلى مواقف نبويّة وجريئة تقرأ الواقع فتهيئ للربّ شعبًا مُعدًّا خير إعداد(لو1: 17). وتُلزم، في الوقت نفسه، الجماعات المُتمرّدة، بالتوبة والطاعة وبتهذيب الإيمان والتعليم المُستقيم. وتُخضع مُرشديها من رجال دين وأعوانهم للمُساءلة والمُحاسبة، وفي حال التعنّت، للقصاص والبَتر والفصل؛ فالشّوكة التي تؤلِم الخاصرة، يجب أن تُقلَع لئلاّ تؤثّر بسمومها وبتداعياتها السيّئة على أعضاء الجسم كلّه فيقضي.
في الحقيقة، وقبل أن أكتب هذه الكلمات، شعرت بالعار والمهانة والخجل من الحالة التي وصلنا إليها في كنيستنا؛ وقد جعل منّا الأصوليّون بسلوكيّاتهم المُعيبة والمُعادية، وتمرّدهم وعصيانهم" عَاراً عِنْدَ جِيرَانِنَا، وهُزُءًا وَسُخْرَةً لِلّذينَ حَولَنَا"(مز79: 4)... والسّلام.